الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
وما لم يكن كذلك لم يجز، لان الشعر في الغالب لا يخلو عن الفواحش والكذب والتزين بالباطل، ولو سلم من ذلك فأقل ما فيه اللغو والهذر، والمساجد منزهة عن ذلك، لقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ}. وقد يجوز إنشاده في المسجد، كقول القائل: وقول الأخر: فهذا النوع وإن لم يكن فيه حمد ولا ثناء يجوز، لأنه خال عن الفواحش والكذب. وسيأتي ذكر الاشعار الجائزة وغيرها بما فيه كفاية في الشعراء إن شاء الله تعالى. وقد روي الدارقطني من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ذكر الشعراء عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «هو كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح».وفي الباب عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبى هريرة وابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذكره في السنن. قلت: وأصحاب الشافعي يأثرون هذا الكلام عن الشافعي وأنه لم يتكلم به غيره، وكأنهم لم يقفوا على الأحاديث في ذلك. والله أعلم.الثامنة: وأما رفع الصوت فإن كان مما يقتضى مصلحة للرافع صوته دعى عليه بنقيض قصده، لحديث بريرة المتقدم، وحديث أبى هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من سمع رجلا ينشد ضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا». وإلى هذا ذهب مالك وجماعة، حتى كرهوا رفع الصوت في المسجد في العلم وغيره. وأجاز أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن مسلمة من أصحابنا رفع الصوت في الخصومة والعلم، قالوا: لأنهم لا بد لهم من ذلك. وهذا مخالف لظاهر الحديث، وقولهم: لا بد لهم من ذلك ممنوع، بل لهم بد من ذلك لوجهين: أحدهما: بملازمة الوقار والحرمة، وبإحضار ذلك بالبال والتحرز من نقيضه. والثاني: أنه إذا لم يتمكن من ذلك فليتخذ لذلك موضعا يخصه، كما فعل عمر حيث بنى رحبة تسمى البطيحاء، وقال: من أراد أن يلغط أو ينشد شعرا- يعني في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فليخرج إلى هذه الرحبة. وهذا يدل على أن عمر كان يكره إنشاد الشعر في المسجد، ولذلك بنى البطيحاء خارجه.التاسعة: وأما النوم في المسجد لمن احتاج إلى ذلك من رجل أو امرأة من الغرباء ومن لا بيت له فجائز، لان في البخاري- وقال أبو قلابة عن أنس: قدم رهط من عكل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكانوا في الصفة، وقال عبد الرحمن بن أبى بكر: كان أصحاب الصفة فقراء.وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لفظ البخاري: وترجم باب نوم المرأة في المسجد وأدخل حديث عائشة في قصة السوداء، التي اتهمها أهلها بالوشاح، قالت عائشة: وكان لها خباء في المسجد أو حفش... الحديث. ويقال: كان مبيت عطاء بن أبى رباح في المسجد أربعين سنة.العاشرة: روى مسلم عن أبى حميد أو عن أبى أسيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل اللهم إنى أسألك من فضلك». خرجه أبو داود كذلك، إلا أنه زاد بعد قوله: «إذا دخل أحدكم المسجد: فليسلم وليصل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم ليقل اللهم افتح لي...» الحديث.وروى ابن ماجه عن فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخل المسجد قال: «باسم الله والسلام على رسول الله اللهم أغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال باسم الله والصلاة على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وأفتح لي أبواب رحمتك وفضلك».وروى عن أبى هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليصل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليقل اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليسلم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليقل اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم». وخرج أبو داود عن حيوة بن شريح قال: لقيت عقبة بن مسلم فقلت له بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاصي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان إذا دخل المسجد قال: «أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم» قال نعم. قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ منى سائر اليوم.الحادية عشرة: روى مسلم عن أبى قتادة أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس» وعنه قال: دخلت المسجد ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس بين ظهراني الناس، قال فجلست فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما منعك أن تركع ركعتين قبل أن تجلس»؟ فقلت: يا رسول الله، رأيتك جالسا والناس جلوس. قال: «فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين». قال العلماء: فجعل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمسجد مزية يتميز بها عن سائر البيوت، وهو ألا يجلس حتى يركع. وعامة العلماء على أن الامر بالركوع على الندب والترغيب.وقد ذهب داود وأصحابه إلى أن ذلك على الوجوب، وهذا باطل، ولو كان الامر على ما قالوه لحرم دخول المسجد على المحدث الحدث الأصغر حتى يتوضأ، ولا قائل به فيما أعلم، والله أعلم. فإن قيل: فقد روى إبراهيم بن يزيد عن الأوزاعي عن يحيى بن أبى كثير عن أبى سلمة عن عبد الرحمن عن أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين وإذا دخل أحدكم بيته فلا يجلس حتى يركع ركعتين فإن الله جاعل من ركعتيه في بيته خيرا»، وهذا يقتضى التسوية بين المسجد والبيت. قيل له: هذه الزيادة في الركوع عند دخول البيت لا أصل لها، قال ذلك البخاري. وإنما يصح في هذا حديث أبى قتادة الذي تقدم لمسلم، وإبراهيم هذا لا أعلم روى عنه إلا سعد ابن عبد الحميد، ولا أعلم له إلا هذا الحديث الواحد، قاله أبو محمد عبد الحق.الثانية عشرة: روى سعيد بن زبان حدثني أبى عن أبيه عن جده عن أبى هند رضي الله عنه قال: حمل تميم- يعني الداري- من الشام إلى المدينة قناديل وزيتا ومقطا، فلما انتهى إلى المدينة وافق ذلك ليلة الجمعة فأمر غلاما يقال له أبو البزاد فقام فنشط المقط وعلق القناديل وصب فيها الماء والزيت وجعل فيها الفتيل، فلما غربت الشمس أمر أبا البزاد فأسرجها، وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ال مسجد فإذا هو بها تزهر، فقال: «من فعل هذا»؟ قالوا: تميم الداري يا رسول الله، فقال: «نورت الإسلام نور الله عليك في الدنيا والآخرة أما إنه لو كانت لي ابنة لزوجتكها». قال نوفل بن الحارث: لي ابنة يا رسول الله تسمى المغيرة بنت نوفل فافعل بها ما أردت، فأنكحه إياها. زبان بفتح الزاي والباء وتشديدها بنقطة واحدة من تحتها ينفرد بالتسمى به سعيد وحده، فهو أبو عثمان سعيد بن زبان ابن قائد بن زبان بن أبى هند، وأبو هند هذا مولى بنى بياضة حجام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والمقط: جمع المقاط، وهو الحبل، فكأنه مقلوب القماط. والله أعلم.وروى ابن ماجه عن أبى سعيد الخدري قال: أول من أسرج في المساجد تميم الداري. وروي عن أنس أن النبيصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يصلون عليه ويستغفرون له ما دام ذلك الضوء فيه وإن كنس غبار المسجد نقد الحور العين». قال العلماء: ويستحب أن ينور البيت الذي يقرأ فيه القرآن بتعليق القناديل ونصب الشموع فيه، ويزاد في شهر رمضان في أنوار المساجد.الثالثة عشرة: قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ. رِجالٌ} اختلف العلماء في وصف الله تعالى المسبحين، فقيل: هم المراقبون أمر الله، الطالبون رضاءه، الذين لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا.وقال كثير من الصحابة: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا. وراي سالم ابن عبد الله أهل الأسواق وهم مقبلون إلى الصلاة فقال: هؤلاء الذين أراد الله بقوله: {لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}. وروي ذلك عن ابن مسعود. وقرأ عبد الله بن عامر وعاصم في رواية أبى بكر عنه والحسن {يسبح له فيها} بفتح الباء على ما لم يسم فاعله. وكان نافع وابن عمر وأبو عمرو وحمزة يقرءون {يُسَبِّحُ} بكسر الباء، وكذلك روى أبو عمرو عن عاصم. فمن قرأ {يسبح} بفتح الباء كان على معنيين: أحدهما أن يرتفع {رِجالٌ} بفعل مضمر دل عليه الظاهر، بمعنى يسبحه رجال، فيوقف على هذا على {الْآصالِ}. وقد ذكر سيبويه مثل هذا. وأنشد: المعنى: يبكيه ضارع. وعلى هذا تقول: ضرب زيد عمرو، على معنى ضربه عمرو. والوجه الأخر- أن يرتفع {رِجالٌ} بالابتداء، والخبر {فِي بُيُوتٍ}، أي في بيوت أذن الله أن ترفع. رجال. و{يسبح له فيها} حال من الضمير في {تُرْفَعَ}، كأنه قال: أن ترفع، مسبحا له فيها، ولا يوقف على {الْآصالِ} على هذا التقدير. ومن قرأ {يُسَبِّحُ} بكسر الباء لم يقف على {الْآصالِ}، لان {يسبح} فعل للرجال، والفعل مضطر إلى فاعله ولا إضمار فيه. وقد تقدم القول في {بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ} في آخر الأعراف والحمد لله وحده.الرابعة عشرة: قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيها} قيل: معناه يصلى.وقال ابن عباس: كل تسبيح في القرآن صلاة، ويدل عليه قوله: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ}، أي بالغداة والعشي.وقال أكثر المفسرين: أراد الصلاة المفروضة، فالغدو صلاة الصبح، والآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين، لان اسم الآصال يجمعها.الخامسة عشرة: روى أبو داود عن أبى أمامة أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: «من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم ومن خرج إلى تسبيح الضحا لا ينصبه إلا إياه فأجره المعتمر وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين». وخرج عن بريدة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «بشر المشاءين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة».وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح». في غير الصحيح من الزيادة: «كما أن أحدكم لو زار من يحب زيارته لاجتهد في كرامته»، ذكره الثعلبي. وخرج مسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضى فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة». وعنه قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعا وعشرين درجة وذلك أن أحدهم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة لا يريد إلا الصلاة فلم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد فإذا دخل المسجد كان في الصلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلى فيه يقولون اللهم ارحمه اللهم اغفر له اللهم تب عليه ما لم يؤذ فيه ما لم يحدث فيه». في رواية: «ما يحدث؟ قال: يفسو أو يضرط».وقال حكيم بن زريق: قيل لسعيد بن المسيب أحضور الجنازة أحب إليك أم الجلوس في المسجد؟ فقال: من صلى على جنازة فله قيراط، ومن شهد دفنها فله قيراطان، والجلوس في المسجد أحب إلى، لان الملائكة تقول: اللهم اغفر له اللهم ارحمه اللهم تب عليه. وروي عن الحكم بن عمير صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كونوا في الدنيا أضيافا واتخذوا المساجد بيوتا وعودوا قلوبكم الرقة وأكثروا التفكر والبكاء ولا تختلف بكم الاهواء. تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون».وقال أبو الدرداء لابنه: ليكن المسجد بيتك فإنى سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن المساجد بيوت المتقين ومن كانت المساجد بيته ضمن الله تعالى له الروح والراحة والجواز على الصراط». وكتب أبو صادق الأزدي إلى شعيب بن الحبحاب: أن عليك بالمساجد فألزمها، فإنه بلغني أنها كانت مجالس الأنبياء.وقال أبو إدريس الخولاني: المساجد مجالس الكرام من الناس.وقال مالك بن دينار: بلغني أن الله تبارك وتعالى يقول: «إنى أهم بعذاب عبادي فأنظر إلى عمار المساجد وجلساء القرآن وولدان الإسلام فيسكن غضبى». وروي عنه عليه السلام أنه قال: «سيكون في آخر الزمان رجال يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقا حلقا ذكرهم الدنيا وحبها فلا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة».وقال ابن المسيب: من جلس في مسجد فإنما يجالس ربه، فما حقه أن يقول إلا خيرا. وقد مضى من تعظيم المساجد وحرمتها ما فيه كفاية. وقد جمع بعض العلماء في ذلك خمس عشرة خصلة، فقال: من حرمة المسجد أن يسلم وقت الدخول إن كان القوم جلوسا، وإن لم يكن في المسجد أحد قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وأن يركع ركعتين قبل أن يجلس، وألا يشتري فيه ولا يبيع، ولا يسل فيه سهما ولا سيفا، ولا يطلب فيه ضالة، ولا يرفع فيه صوتابغير ذكر الله تعالى، ولا يتكلم فيه بأحاديث الدنيا، ولا يتخطى رقاب الناس، ولا ينازع في المكان، ولا يضيق على أحد في الصف، ولا يمر بين يدي مصل، ولا يبصق، ولا يتنخم، ولا يتمخط فيه، ولا يفرقع أصابعه، ولا يعبث بشيء من جسده، وأن ينزه عن النجاسات والصبيان والمجانين، وإقامة الحدود، وأن يكثر ذكر الله تعالى ولا يغفل عنه. فإذا فعل هذه الخصال فقد أدى حق المسجد، وكان المسجد حرزا له وحصنا من الشيطان الرجيم.وفي الخبر: «أن مسجدا ارتفع بأهله إلى السماء يشكوهم إلى الله لما يتحدثون فيه من أحاديث الدنيا». وروي الدارقطني عن عامر الشعبي قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من اقتراب الساعة أن يرى الهلال قبلا فيقال لليلتين وأن تتخذ المساجد طرقا وأن يظهر موت الفجأة». هذا يرويه عبد الكبير بن المعافى عن شريك عن العباس بن ذريح عن الشعبي عن أنس. وغيره يرويه عن الشعبي مرسلا، والله أعلم.وقال أبو حاتم: عبد الكبير بن معافى ثقة كان يعد من الابدال.وفي البخاري عن أبى موسى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا بنبل فليأخذ على نصالها لا يعقر بكفه مسلما». وخرج مسلم عن أنس قال قال وسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها». وعن أبى ذر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «عرضت على أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق ووجدت في مساوي أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تدفن». وخرج أبو داود عن الفرج بن فضالة عن أبى سعد الحميري قال: رأيت واثلة بن الأسقع في مسجد دمشق بصق على الحصير ثم مسحه برجله، فقيل له: لم فعلت هذا؟ قال: لأني رأيت رسول الله صلى عليه وسلم يفعله. فرج بن فضالة ضعيف، وأيضا فلم يكن في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حصر. والصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بصق على الأرض ودلكه بنعله اليسرى، ولعل واثلة إنما أراد هذا فحمل الحصير عليه.السادسة عشرة: لما قال تعالى: {رِجالٌ} وخصهم بالذكر دل على أن النساء لا حظ لهن في المساجد، إذ لا جمعة عليهن ولا جماعة، وأن صلاتهن في بيوتهن أفضل. روى أبو داود عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها».السابعة عشرة: قوله تعالى: {لا تُلْهِيهِمْ} أي لا تشغلهم. {تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} خص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة. فإن قيل: فلم كرر ذكر البيع والتجارة تشمله؟ قيل له: أراد بالتجارة الشراء لقوله: {ولا بيع}. نظيره قول تعالى: {وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها} [الجمعة: 11] قاله الواقدي.وقال الكلبي: التجار هم الجلاب المسافرون، والباعة هم المقيمون. {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} اختلف في تأويله، فقال عطاء: يعني حضور الصلاة، وقال ابن عباس، وقال: المكتوبة.وقيل: عن الأذان، ذكره يحيى بن سلام.وقيل: عن ذكره بأسمائه الحسنى، أي يوحدونه ويمجدونه. والآية نزلت في أهل الأسواق، قاله ابن عمر. قال سالم: جاز عبد الله بن عمر بالسوق وقد أغلقوا حوانيتهم وقاموا ليصلوا في جماعة فقال: فيهم نزلت: {رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ} الآية.وقال أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله».وقيل: إن رجلين كانا في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أحدهما بياعا فإذا سمع النداء بالصلاة فإن كان الميزان بيده طرحه ولا يضعه وضعا، وإن كان بالأرض لم يرفعه. وكان الأخر قينا يعمل السيوف للتجارة، فكان إذا كانت مطرقته على السندان أبقاها موضوعة، وإن كان قد رفعها ألقاها من وراء ظهره إذا سمع الأذان، فأنزل الله تعالى هذا ثناء عليهما وعلى كل من افتدى بهما.الثامنة عشرة: قوله تعالى: {وَإِقامِ الصَّلاةِ} هذا يدل على أن المراد بقوله: {عن ذكر الله} غير الصلاة، لأنه يكون تكرارا. يقال: أقام الصلاة إقامة، والأصل إقواما فقلبت حركة الواو على القاف فانقلبت الواو ألفا وبعدها ألف ساكنة فحذفت إحداهما، وأثبتت الهاء لئلا تحذفها فتجحف، فلما أضيفت قام المضاف مقام الهاء فجاز حذفها، وإن لم تضف لم يجز حذفها، ألا ترى أنك تقول: وعد عدة، ووزن زنة، فلا يجوز حذف الهاء، لأنك قد حذفت واوا، لان الأصل وعد وعدة، ووزن وزنة، فإن أضفت حذفت الهاء، وأنشد الفراء: يريد عدة، فحذف الهاء لما أضاف. وروي من حديث أنس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يأتي الله يوم القيامة بمساجد الدنيا كأنها نجب بيض قوائمها من العنبر وأعناقها من الزعفران ورءوسها من المسك وأزمتها من الزبرجد الأخضر وقوامها والمؤذنون فيها يقودونها وأئمتها يسوقونها وعمارها متعلقون بها فتجوز عرصات القيامة كالبرق الخاطف فيقول أهل الموقف هؤلاء ملائكة مقربون أو أنبياء مرسلون فينادى ما هؤلاء بملائكة ولا أنبياء ولكنهم أهل المساجد والمحافظون على الصلوات من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». وعن على رضي الله عنه أنه قال: يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، يعمرون مساجدهم وهى من ذكر الله خراب، شر أهل ذلك الزمن علماؤهم، منهم تخرج الفتنة واليهم تعود، يعني أنهم يعلمون ولا يعملون بواجبات ما علموا.التاسعة عشرة: قوله تعالى: {وَإِيتاءِ الزَّكاةِ} قيل: الزكاة المفروضة، قاله الحسن.وقال ابن عباس: الزكاة هنا طاعة الله تعالى والإخلاص، إذ ليس لكل مؤمن مال. {يَخافُونَ يَوْماً} يعني يوم القيامة. {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ} يعني من هوله وحذر الهلاك. والتقلب التحول، والمراد قلوب الكفار وأبصارهم. فتقلب القلوب انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر، فلا هي ترجع إلى أماكنها ولاهي تخرج. وأما تقلب الأبصار فالزرق بعد الكحل والعمى بعد البصر.وقيل: تتقلب القلوب بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك، والأبصار تنظر من أي ناحية يعطون كتبهم، وإلى أي ناحية يؤخذ بهم.وقيل: إن قلوب الشاكين تتحول عما كانت عليه من الشك، وكذلك أبصارهم لرؤيتهم اليقين، وذلك مثل قول تعالى: {فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] فما كان يراه في الدنيا غيا يراه رشدا، إلا أن ذلك لا ينفعهم في الآخرة.وقيل: تقلب على جمر جهنم كقوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} [الأحزاب: 66]، {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ} [الأنعام: 110]. في قول من جعل المعنى تقلبها على لهب النار.وقيل: تقلب بأن تلفحها النار مرة وتنضجها مرة.وقيل: إن تقلب القلوب وجيبها، وتقلب الأبصار النظر بها إلى نواحي الأهوال. {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا} فذكر الجزاء على الحسنات، ولم يذكر الجزاء على السيئات وإن كان يجازي عليها لأمرين: أحدهما- أنه ترغيب، فاقتصر على ذكر الرغبة.الثاني- أنه في صفة قوم لا تكون منهم الكبائر، فكانت صغائرهم مغفورة. {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} يحتمل وجهين: أحدهما- ما يضاعفه من الحسنة بعشر أمثالها.الثاني- ما يتفضل به من غير جزاء. {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} أي من غير أن يحاسبه على ما أعطاه، إذ لا نهاية لعطائه. وروي أنه لما نزلت هذه الآية أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببناء مسجد قباء، فحضر عبد الله بن رواحة فقال: يا رسول الله، قد أفلح من بنى المساجد؟ قال: «نعم يا بن رواحة» قال: وصلي فيها قائما وقاعدا؟ قال: «نعم يا بن رواحة» قال: ولم يبت لله إلا ساجدا؟ قال: «نعم يا ابن رواحة. كف عن السجع فما أعطى عبد شيئا شرا من طلاقة في لسانه»، ذكره الماوردي.
|